برامج «المجتمع العلاجي للمدمنين»

إعادة تأهيل مدمن المخدرات مرحلة لا تقل أهمية عن المرحلة الرئيسية في العلاج من الإدمان، وإنما تعدّ مكملة لها، فلا تُساوي مرحلة العلاج من إدمان المخدرات شيئاً في حال أُصيب المدمن بانتكاسة تجعله يرتد مرة أخرى لطريق الإدمان، وهو ما يتكرر عادة مع أغلب المدمنين الذين لم يحالفهم الحظ للحصول على برنامج إعادة تأهيل صحيح ينقذهم من هذا المصير.
– برامج علاجية
يعدّ برنامج «جسور أميركا Bridges of America (BOA)» أحد البرامج القوية داخل سجون فلوريدا بأميركا، إن لم يكن أكبرها وأقواها، وقد ابتدأ عام 1980 لتوفير استمرارية الرعاية وإعادة التأهيل في برامج علاج سوء استخدام المواد المخدرة، ويفتخر بنجاحه في خفض نسبة عودة المدمنين للسجن في غضون أول سنتين إلى 20 في المائة فقط بين المستفيدين من برنامج «جسور أميركا» بعد أن كانت مرتفعة (85 في المائة).
كما يعدّ «برنامج الحرية» في جمهورية مصر العربية أقدم برنامج «مجتمع علاجي» في العالم العربي؛ ويعود إلى عام 1991، حيث بدأ في شقة صغيرة على سطح بناية في حي المنيل بالقاهرة في مصر، وتطور منها إلى 34 مركزاً موزعة على طول البلاد وعرضها، ويضم 1055 سريراً يستفيد منها كل عام ما يزيد على 4 آلاف مدمن.
وفي السعودية، يعدّ «قويم» تجربة سعودية متفوقة في مجال «المجتمع العلاجي للمدمنين» من ناحية جودة وفاعلية البرنامج فوق مثيلاتها في العالم. ويعود ذلك إلى عامي 2012 و2014، حين انضمت مجموعة رائدة من المملكة للدورات التدريبية التي يقدمها «برنامج الحرية» في مصر، وبعد عودتهم أنشأوا شركة أطلقوا عليها اسم «قويم» وطبقوا فيها مفاهيم «برنامج الحرية» داخل سجون الرياض وجدة. وأضحت نسبة انتكاسة العلاج (وفقاً لتصريح اللواء ماجد الدويش مدير سجون منطقة مكة المكرمة) صفراً في المائة بين المستفيدين من المجتمع العلاجي في سجن بريمان بجدة بالمملكة بفضل تطبيق تجربة إعادة تأهيل المدمنين في سجن بريمان من خلال ما يسمى «المجتمع العلاجي (therapeutic community)» وتطبيق أحدث برامج العلاج في قسم «إشراقة» وقسم «الثقة» بداخل السجن العتيد في جدة، والذي يضاهي؛ بل ربما يفوق، ما يحدث في البلاد الصناعية الكبرى.
فما المجتمع العلاجي للإدمان؟ ومتى وأين كانت بداياته؟ وما معاييره؟ وما مبادئه؟
– المجتمع العلاجي
استضافت «صحتك» مدير ومؤسس «برنامج الحرية من الإدمان» بجمهورية مصر العربية الدكتور إيهاب الخراط استشاري الطب النفسي، والحاصل على الدكتوراه في طب نفس الإدمان من جامعة كِنت بإنجلترا، عضو مجلس إدارة الاتحاد العالمي للمجتمعات العلاجية في نيويورك، والتجمع العالمي للتعامل مع التعاطي والإدمان في ريدنغ بإنجلترا، فأوضح في البداية أن «المجتمع العلاجي»، كما عرفه الدكتور جورج دي ليون (George De Leon) أبرز الباحثين المعاصرين في هذا المجال ومدير «مركز أبحاث المجتمع العلاجي» بجامعة نيويورك، هو مدخل لتغيير حياة من يعانون من اضطرابات سلوكية من خلال استخدام مجتمع صغير من البشر بوصفه «أداة التغيير الأساسية»؛ أي إن «الطبيب ليس له الدور الأساسي، ولا المعالج النفسي، ولا حتى المريض الفرد نفسه، بل المجتمع الصغير الذي يحيا معه هو أداة التغيير الأساسية. المجتمع الصغير الذي يقيم فيه الفرد هو (المعالج). والمثال الرئيسي للمجتمع العلاجي اليوم هو مراكز تأهيل المدمنين، لكن تطبيقاته أيضاً تشمل المجتمعات العلاجية للأحداث الجانحين أو الناجين من الصدمات أو المتعافين من أمراض نفسية مختلفة أو حتى من أمراض بدنية».
ويضيف الدكتور الخراط أن «معايير المجتمع العلاجي، كما يصفها الاتحاد العالمي للمجتمعات العلاجية، تتضمن: الإقامة بمدة محددة، ومراحل لها أهداف محددة ومكتوبة، وجدول يومي وجدول أسبوعي ثابت ومعروف ويلتزم به الجميع. على أن تكون للمجموعات دور أساسي لا يمكن الاستغناء عنه (أنشطة مجموعاتية لا تقل عن 6 ساعات يومياً وأحياناً من 8 إلى 10 ساعات يومياً).
ومن مبادئ المجتمع العلاجي الأساسية مبدأ المساواة لكل «عضو» في المجتمع العلاجي، ابتداء من المدير المطالب ببذل الجهد للنمو والتغيير، وأن يكون قدوة للآخرين. وكل عضو، حتى الجدد، يشارك مشاركة فاعلة وإيجابية في الأنشطة ويكون له دور في عملية تغيير الآخرين، كأن يقدم مساعدة عملية، وترحيباً بالجدد، والإنصات لهم ومساندتهم. وهناك عنصر آخر أساسي؛ هو وجود «فلسفة» يتم تطبيقها في المكان من خلال محاضرات أو دروس، وأيضاً من خلال القدوة. وهناك قواعد ولوائح واضحة ومكتوبة، يتم شرحها والتمسك بها باستمرار وتطبق على الجميع. هذه هي إذن محددات المجتمع العلاجي وخصائصه، ولو غاب واحد من هذه المعايير فلا يكون المكان مجتمعاً علاجياً.
أهمية برامج التأهيل
يقول الدكتور الخراط إن دراسة «البرنامج البحثي لتعاطي المخدرات Drug Abuse Reporting Program (DARP)» في الولايات المتحدة الأميركية – وهي دراسة رائدة استمرت في متابعة 40 ألف متعاطٍ لمدد تصل إلى 12 سنة – «أظهرت أن علاج الأعراض الطبية والنفسية لإدمان المخدرات من دون إعادة تأهيل لا يحقق الامتناع المستقر (أكثر من سنتين من دون تعاطٍ) إلا في اثنين في المائة من الحالات، بينما إعادة التأهيل؛ سواء في صورة إعادة التأهيل الاجتماعي (المجتمعات العلاجية)، أو العيادات الخارجية الخالية من المخدرات (ومن أمثلتها وأكثرها تطوراً البرنامج المعروف باسم «ماتريكس» Matrix Model)، تحقق الامتناع المستقر عن التعاطي بنسب حول 65 في المائة من الحالات في المتابعة حتى 6 سنوات. وتوالت الأبحاث في دراسات تتبعية كبيرة في الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا وقليل من الدراسات الكبرى في بلاد أخرى لتظهر النتائج نفسها حتى عام 2015».
– التعامل مع الإدمان
قسّم الدكتور إيهاب الخراط مراحل التعامل مع الإدمان، الذي يستهدف الامتناع عن التعاطي، إلى مرحلتين:
– المرحلة الأولى: علاج أعراض الانسحاب وهي الأعراض الجسدية والنفسية التي يعاني منها المتعاطي فور التوقف عن استعمال المادة المخدرة، وهي تستمر من يومين إلى 5 أيام في حالة الأفيونيات (ومنها الهيروين)، وإلى 10 أيام أو أكثر في حالة عقاقير أخرى (مثل المهدئات). وهذه المرحلة طبية بحتة، وتُستخدم فيها مجموعة من الأدوية لعلاج الآلام والإسهال والأرق والتوتر أو الهياج وتفادي حدوث نوبات صرعية أو علاجها متى حدثت، وربما تخفيض الرغبة الشديدة في التعاطي أثناء هذه الفترة. ومع أن بعض المرضى يمكنهم اجتياز هذه الفترة في المنزل، فإن معظمهم يفضل الدخول إلى مركز لعلاج أعراض الانسحاب (ديتوكس) بإرادتهم أو بناء على النصيحة الطبية.
– المرحلة الثانية: هي إعادة التأهيل، وتتعدد طرق إعادة تأهيل المدمنين (Drug Rehabilitation) بين النموذج الطبي (Inpatient or Medical Model Specialized)، والنموذج الاجتماعي أو التأهيل الاجتماعي (Social Model or Therapeutic Communities or Drug Rehabilitation)، ومداخل أخرى للرعاية اللاحقة. وتُسمى مراكز التأهيل الاجتماعي أيضاً «المراكز المجتمعية (Community Based)»، تمييزاً لها عن المراكز الطبية أو المستشفيات (Hospital Based).
بيوت «منتصف الطريق»
أوضح الدكتور الخراط أن التأهيل الاجتماعي يتضمن، أيضاً، ما تُسمى «بيوت منتصف الطريق»، «وهي أماكن سكن آمن من المخدرات، ولها نظام خاص، يذهب إليها المدمن الذي أتم العلاج الطبي، ويظل فيها قبل أن يعود لمنزله. والتأهيل الاجتماعي هذا يتضمن جدولاً يوميّاً من الأنشطة الاجتماعية والتثقيفية والروحانية، ومنها: مجموعات التأمل، والمشاركة والمساندة الذاتية، ودراسات التعافي، وفترات العمل، والمشاركة في إدارة المكان والنظافة الشخصية، ومجموعات منع الانتكاسة، والرياضة، واستخدام الفن والموسيقى… وغيرها».
يدير التأهيل الاجتماعي عادة مدمنون متعافون توقفوا عن التعاطي مدة طويلة (سنتان أو أكثر في المعتاد)، ويحصلون على تدريب أكاديمي (من 70 إلى 370 ساعة دراسية للمستوى الأول) وتدريب عملي (سنة على الأقل تحت التدريب). ولا تحتاج مراكز التأهيل الاجتماعي إلى إشراف طبي مكثف، وتظهر الدراسات أن نسبة العاملين في هذه المراكز من المدمنين السابقين المدربين يُستحسن أن تتراوح بين 60 و80 في المائة، بينما يحتل المهنيون الآخرون بمن فيهم الأطباء والاختصاصيون الاجتماعيون، وأحياناً القادة الدينيون وحتى المحاسبون والطهاة، ما بين 20 و40 في المائة من طاقم العمل. حيث يُعتَقَد أن العاملين في هذه المراكز يمثلون قدوة وأملاً في التغيير للمدمن الذي يكون في مرحلة صراع داخلي شديدة، كما أن قدرتهم على المواجدة (الإحساس بالمدمن وفهم رؤيته لنفسه وللعالم) تكون أعلى، وقدرتهم على تدريبه على مهارات الحياة أكثر تأثيراً. كما أن وجود نسبة من المهنيين من غير الخلفية الإدمانية يفيد في تحقيق الاستقرار وتجنب بعض الأزمات داخل هذه المراكز.
– التأهيل الاجتماعي
لقد استقر الرأي على أن تعاطي المخدرات والاعتماد عليها (الإدمان) هو مشكلة طبية ونفسية واجتماعية. ويمكن إيجاز التعامل مع تعاطي المخدرات والإدمان، كما سبق، في مرحلتين أساسيتين: مرحلة طبية، ومرحلة تأهيل قد يكون «طبنفسي» وقد يكون تأهيلاً اجتماعياً.
والتأهيل الاجتماعي أكثر شيوعاً، وفي معظم دول العالم يتبع إشرافه أجهزة الخدمات الاجتماعية، حيث توجد خدمات إسكان وفي أحيان أخرى خدمات تدريبية. وأحياناً يتبع هيئات دينية ويتم إدراجها تحت اسم «الخدمات الاجتماعية للهيئات الدينية». وهناك القليل من الدول، مثل سويسرا، تخضع فيها هذه الهيئات لإشراف وزارة الصحة، ليس بوصفها منشآت طبية؛ بل «مراكز تأهيل اجتماعي» يتم مرور تفتيش صحي عليها. وفي بعض الفلسفات العلاجية مثلاً يتم استخدام لفظ «المدمن السابق (ex – addict)» بينما يصر مَن يتبنون برامج الخطوات الاثنتي عشرة على أن التعافي رحلة نمو وتغيير تستغرق العمر كله فيفضلون لفظ «المدمن المتعافي». وهناك أوساط علمية كثيرة تستخدم تعبير «المستخدمين السابقين للمخدرات».
ومن أمثلة المجتمعات العلاجية التقليدية للتعامل مع الإدمان في المملكة المتحدة: «فينكس هاوس (Phoenix House)»، و«ألفا هاوس (Alpha House)»، و«مجتمع لي (Lee Com)»؛ وبعضها موجود في أماكن أخرى من العالم. أما مجتمعات «السامري» و«داي توب»، فهي الأشهر في الولايات المتحدة.
– أهداف رئيسية
ويختتم الدكتور إيهاب الخراط حديثه بأن «جميع البرامج تتفق على أهداف رئيسية هي: الإقلاع التام عن تعاطي المخدرات، والعودة إلى عمل منتج وإلى علاقات طبيعية في محيط العائلة وخارجها، والحد الأدنى من الشعور بالرضا والاستمتاع بالحياة دون تعاطي المخدرات. ومع اشتراكها أيضاً في ضرورة وجود هدف يتجاوز مجرد هذه الأهداف الثلاثة المذكورة، فهناك هدف رابع وهو النمو النفسي أو (الروحي) الشخصي والذي يُعرف بـ(برنامج الـ12 خطوة) وتحكمه برامج متباينة حسب (الفلسفة). ويعدّ النمو الروحي تحسين التواصل الواعي مع الله والدعاء لمعرفة مشيئته تعالى وتنفيذها، بينما تعتمد البرامج الأكثر علمانية أهدافاً متعلقة بخدمة المجتمع والوعي وبالكون والطبيعة وتطبيق المبادئ الإنسانية. تتبنى المجتمعات العلاجية ذات الطبيعة الدينية أهدافاً دينية صريحة متعلقة بالتقوى والحياة الملتزمة بالمبادئ الدينية، وحتى أهدافاً متعلقة بالآخرة. ولعل أهم التباينات تنبع من اختلاف الفلسفة أو المحتوى التعليمي والتثقيفي الذي تقدمه».
تختلف الفلسفات في برامج تأهيل المدمنين، ويعزو بعض العاملين فيها قوة النتائج للفلسفة المتبعة. على أن الدراسات تُظهر أن هناك عناصر أخرى غير «الفلسفة» قد تكون أكثر تأثيراً في النتائج. فعند دراسة 15 برنامجاً لإعادة التأهيل، وُجد أن البرامج التي تحظى بنتائج أفضل من غيرها هي البرامج ذات الهدف الواضح، والتي تنمي المهارات الاجتماعية والوظيفية، والتي تركز على الروحانيات. كما أشارت دراسات أخرى إلى أهمية المتابعة والرعاية اللاحقة بعد ترك مراكز التأهيل.
وهناك، أيضاً، عناصر عدة يجب توافرها في المجتمعات العلاجية لرفع نتائج التعافي، كما جاء في دراسة قام بها العالم الشهير في هذا المجال رودلف مووس (Rudolf Moos) وتتضمن: وضوح البرنامج، وتقديم الدعم والاهتمام، والاندماج (عدم الملل)؛ أي أن يكون البرنامج حيويّاً وجذاباً ومهتما بالمشكلات الشخصية مثل الاهتمامات بالعلاقات، والمشكلات الجنسية، والمشكلات القضائية، والمشكلات العملية، والمساعدة في الالتحاق بعمل أو دراسة… إلخ.
وختاماً؛ يشيد الدكتور الخراط بـ«النتائج المبهرة في سجون السعودية، وهي تعود ليس فقط إلى البيئة المنظمة النظيفة هناك؛ بل إلى توافر العناصر السابق ذكرها. وهذه التجربة، وإن كانت لا تزال في سنواتها الأولى وتستلزم متابعة علمية أكثر دقة، نتائجها الأولية والانطباعات المبدئية عنها مشجعة وواعدة».
– استشاري «طب المجتمع»

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
© Copyright 2024, All Rights Reserved, by Ta4a.net