محاولات علمية لفهم «العاثيات» وتأثيراتها الصحية الإيجابية

الفيروسات ليست فقط أكثر الكائنات البيولوجية عدداً في كوكب الأرض، بل إنها أيضاً أكثرها وجوداً في داخل جسم الإنسان الطبيعي الذي يتمتع بصحة جيدة، وخاصة في أمعائه.
وضمن عدد 18 فبراير (شباط) الماضي من مجلة «الخلية» The Cell، طرح باحثون من معهد ويلكوم سانجر في بريطانيا والمعهد الأوروبي للمعلومات الحيوية، إحدى النتائج العلمية المثيرة للاهتمام حول وجود نوعيات متعددة من الفيروسات التي تعيش بشكل مُسالم في أمعاء الإنسان.

– تنوع فيروسات الأمعاء
وأفاد الباحثون بأنهم حددوا حتى اليوم وجود أكثر من 140 ألف نوع من الفيروسات Viral Species التي تعيش في الأمعاء. والأهم، أن أكثر من نصفها لم يسبق رؤيته من قبل. وكان عنوان الدراسة «التوسع الهائل في تنوع العاثيات بالأمعاء البشرية».
وتفتح هذه الدراسة الحديثة طرقاً بحثية جديدة في المحاولات العلمية المستمرة لفهم كيفية تأثير الفيروسات التي تعيش في داخل الجسم على صحة الإنسان، وآليات ضبط تأثير الفيروسات بالعموم على الإنسان في الصحة والمرض، وكذلك تأثيرها على توازن وجود أنواع البكتيريا والكائنات الحية الأخرى التي تعيش بشكل طبيعي في مناطق متعددة من جسم الإنسان.
والواقع أن البحث العلمي لا يزال يُحاول معرفة: ما أنواع الكائنات الحية التي تعيش معنا داخل أجسامنا؟ وكان الباحثون قد أقدموا على تحليل حوالي 30 ألف عينة ميكروبيوم أمعاء Gut Microbiome، تم جمعها من أشخاص في أجزاء مختلفة من العالم. وما أثار دهشة الباحثين حول الفيروسات التي تعيش في أمعاء الإنسان وتتفاعل مع التغيرات الصحية لديه هو: ارتفاع تنوع الفصائل الفيروسية في الأمعاء، والأعداد الهائلة لها.
وأفاد الباحثون في دراستهم الجديدة بأن الأمعاء البشرية هي بيئة متنوعة بيولوجيا Biodiverse Environment بشكل واسع وبصفة قد «لا تُصدق». ذلك أنه بالإضافة إلى أعداد البكتيريا التي تعيش في الأمعاء، هناك أعداد تفوقها من الفيروسات التي تعيش داخل تلك البكتيريا في أمعاء الإنسان، وهي التي تسمى «العاثيات».

– «عاثيات حامية»
والعاثيات Bacteriophageوفق التعريف الطبي هي: فيروسات تصيب البكتيريا وتعيش بداخلها. وهذه العاثيات هي بالفعل من أكثر الكائنات البيولوجية انتشاراً في مناطق الأرض اليابسة والمائية. ووفق التقديرات العلمية، ثمة المليارات منها في مناطق عدة من جسم الإنسان حيث توجد البكتيريا. وقد تعمل على تحقيق «الضبط الإيجابي» لنمو أنواع البكتيريا في تلك المستعمرات البكتيرية. وتحديداً، تتوفر لتلك النوعيات من الفيروسات في الأمعاء بيئة آمنة لعملها على حماية الإنسان من أنواع البكتيريا الضارة. وثمة مؤشرات علمية على أن تلك الفيروسات يُمكن تصنيفها كـ«فيروسات صديقة» في مكافحتها البكتيريا الضارة التي قد تؤذي جسم الإنسان وتتسبب بالأمراض فيه. وفي بعض الظروف الصحية، تم استخدام تلك العاثيات كوسائل لمقاومة الإصابة بالأمراض البكتيرية.
وقال الدكتور ألكسندر ألميدا، الباحث المشارك في الدراسة: «من المهم أن نتذكر أنه ليس كل الفيروسات ضارة، وأنها تمثل جزءاً لا يتجزأ من النظام البيئي الطبيعي للأمعاء. والفيروسات في هذه العينات كانت بشكل أساسي من أفراد أصحاء لم يكن لديهم أي أمراض معينة. إنه لأمر مدهش أن نرى عدد الأنواع المجهولة التي تعيش في أمعائنا، وأن نحاول كشف الصلة بينها وبين صحة الإنسان».
وتم تحديد ما يُعرف بـ«كليد» Clade جديد واسع الانتشار من الفيروسات في الأمعاء. و«الكليد» وفق التعريف الطبي هو «فرع حيوي» يشمل مجموعة فصائل من الفيروسات التي تكونت من أصل فيروسي واحد. وهذا «الكليد الفيروسي الجديد» يشكل ثاني أكبر فرع من أنواع الفيروسات انتشاراً في الأمعاء. وكان الفرع الأول قد تم اكتشافه في عام 2014 وتمت تسميته بـcrAssphage. والفرع الجديد (الذي تحت مظلته مجموعات من أنواع الفيروسات) تمت تسميته من قبل الباحثين بـ«غوبافيج» Gubaphage. وعرّف الباحثون غوبافيج بأنها مجموعة فيروسات وحيدة الأصل تُصيب عدة مجموعات من العصوانيات البكتيرية Bacteroidales. والعصوانية الواحدة (وهي رتبة في تصنيف البكتيريا) تضم 10 فصائل من أنواع البكتيريا التي تستوطن الأمعاء. ولا يعلم الباحثون حتى الآن ما وظيفة هذا الفرع الجديد من الفيروسات التي تم اكتشافها حديثاً.
وقال الدكتور لويس ف. كاماريلو – غيريرو، الباحث الرئيسي في الدراسة من معهد ويلكوم سانجر: «كان أحد الجوانب المهمة في عملنا هو ضمان أن يكون العمل على جينومات المادة الوراثية الفيروسية على أعلى مستوى من الجودة. وهو ما يُمهّد الطريق لفهمٍ أفضل للدور الذي تلعبه الفيروسات في بيئة أمعائنا، بما في ذلك اكتشاف علاجات جديدة مثل الأدوية المضادة للميكروبات ذات الأصل المشتق من الفيروسات العاثية».
وقال الدكتور تريفور لولي، الكاتب الرئيسي في الدراسة من معهد ويلكوم سانجر: «تشهد أبحاث الفيروسات العاثية حالياً تطوراً. ويأتي هذا الكتالوج عالي الجودة والواسع النطاق لفيروسات الأمعاء البشرية في الوقت المناسب لتوجيه التحليل البيئي والتطوري في دراسات الفيروسات المستقبلية».

– هل الخلايا تعيش داخل الجسم كأقلية بين الفيروسات والبكتيريا؟
> تشير المصادر العلمية إلى أن جسم الإنسان يتكون على أقل تقدير من نحو ١٠ تريليونات من الخلايا البشرية. ويفيد باحثو مؤسسة هاوارد هيغس الطبية في ولاية مريلاند الأميركية، بأنه تعيش معنا وفي أجسامنا ميكروبات عددها 10 أضعاف عدد الخلايا البشرية الحية المكونة لجسم الإنسان. وهذا ليس بالأمر غير الممكن إذا علمنا أن في كل غرام من التربة نحو 40 مليون بكتيريا.
وتحت عنوان «حقائق سريعة حول الميكروبيوم البشري» يذكر مركز علم الوراثة البيئية والصحة البيئية بجامعة واشنطن الحقائق التالية:
– تعيش في أجسامنا أكثر من 100 تريليون من الميكروبات، وعددها يفوق عدد خلايانا البشرية بنسبة عشرة إلى واحد.
– الغالبية منها تعيش في أمعائنا، وخاصة في الأمعاء الغليظة.
– تشمل تلك الميكروبات كلا من: البكتيريا والفطريات والأوليات والفيروسات، التي تعيش داخل جسم الإنسان وعلى أسطحه الخارجية.
– العقي Meconium (أول براز للطفل حديث الولادة) خال من الفيروسات. وبعد أسبوع واحد فقط من الولادة، يحتوي كل غرام من براز الطفل على حوالي 100 مليون فيروس، معظمها عاثيات من الفيروسات الصديقة التي تهاجم البكتيريا وتحمي الجسم.
– عدد الجينات الوراثية (الميكروبيوم) لجميع الميكروبات تلك في الشخص الواحد هو 200 ضعف عدد الجينات في الجينوم البشري.
– قد يصل وزن تلك الميكروبات إلى خمسة أرطال (الرطل 454 غراما تقريبا).
– تساعد تلك الميكروبات على هضم طعامنا، وتنظيم جهاز المناعة لدينا، والحماية من البكتيريا الأخرى التي تسبب الأمراض، وإنتاج الفيتامينات، بما في ذلك: فيتامين بي – 12 وفيتامين الثيامين وفيتامين كيه وفيتامين الريبوفلافين. ولها تأثيرات على الدماغ والسلوك.
– لم يتم التعرف على وجود الميكروبيوم بشكل عام حتى أواخر التسعينيات الماضية.
– تعيش الخلايا الميكروبية ومادتها الوراثية، الميكروبيوم، مع البشر منذ الولادة. وهذه العلاقة حيوية للصحة الطبيعية.
– لدى كل إنسان مزيج فريد من أنواع الميكروبات.

– استخدام الفيروسات لمعالجة الأمراض المُعدية والسرطانية
> تحت عنوان «العلاج بالفيروسات المُحللة للأورام: استخدام الفيروسات لاستهداف الورم لعلاج السرطان»، تقول المؤسسة القومية للسرطان بالولايات المتحدة: «لأكثر من قرن من الزمان، كان الأطباء مهتمين باستخدام الفيروسات لعلاج السرطان.
وتميل بعض الفيروسات إلى إصابة الخلايا السرطانية وقتلها، وإلى تنشيط تفاعل جهاز مناعة الجسم ضد الخلايا السرطانية. وفي السنوات الأخيرة بدأ عدد صغير – ولكنه متزايد من المرضى – في الاستفادة من هذا النهج. وحتى الآن، وافقت إدارة الغذاء والدواء FDA على فيروس مُحلل للورم Oncolytic Virus واحد فقط، وهو شكل معدل وراثياً من فيروس الهربس لعلاج الورم الميلانيني Melanoma في الجلد».
ويقول الدكتور جيسون تشيسني، مدير مركز جيمس غراهام براون للسرطان في جامعة لويزفيل،: «تُنبه فيروساتُ الأورامِ الجهازَ المناعي إلى وجود خطأ ما، وهذا يؤدي إلى استجابة مناعية ضد الخلايا السرطانية».
وتضيف المؤسسة القومية للسرطان: «وهذا نهج حديث لفكرة قديمة. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، لاحظ الأطباء أن بعض المرضى المصابين بالسرطان يتماثلون للشفاء، ولو مؤقتاً، بعد الإصابة بعدوى فيروسية. واليوم تُجرى دراسات عدة على عشرات من الفيروسات كعلاجات محتملة للسرطان، وفق بحث تم تقديمه في مؤتمر برعاية المعهد الوطني للسرطان حول استخدام الميكروبات كعلاجات للسرطان في عام 2017».
ويقول الدكتور خوان فويو، من مركز إم دي أندرسون للسرطان بجامعة تكساس: «يحظى العلاج بالفيروسات المُحللة للأورام باهتمام متزايد من الباحثين لسبب واحد أنه ناجح».
ورغم الأضرار البشرية الواسعة التي تسببت بها الفيروسات على مرّ التاريخ، ولا تزال تتسبب بها، فإن الغالبية العظمى من الفيروسات ليست مُسببة لأمراض البشر ولا علاقة لها بذلك البتة. والعديد منها يلعب أدواراً متكاملة في دعم النظم البيئية عبر الحفاظ على صحة الكائنات الحية، بدأ من الفطريات والنباتات إلى الحشرات والبشر. ومثال ذلك أن الفيروسات تقضي على 50٪ من بكتيريا البحار والمحيطات، وتنظفها منها.
وثمة أمثلة متعددة لاستخدامات الفيروسات ضمن النواحي العلاجية. وتشير مصادر تاريخ الطب إلى أن العلاج بالعاثيات Bacteriophages (الفيروسات التي تهاجم البكتيريا) طُرح في الأوساط الطبية خلال فترة العشرينات إلى الخمسينات من القرن الماضي. ودرس العلماء ما إذا كان يمكن استخدام العاثيات لعلاج الالتهابات البكتيرية. ووجد العلماء أن العلاج بالعاثيات كان فعالاً، والأهم من ذلك أنه خالٍ من الآثار الجانبية.
ولكن عندما تم اكتشاف المضادات الحيوية، خفّ الاهتمام العلمي بالعلاج بالعاثيات، لأن المضادات الحيوية يمكن تصنيعها بسهولة نسبية، وتقضي على أطياف متعددة من أنواع البكتيريا.
ولكن مع التدهور بانتشار بكتيريا «مقاومة للمضادات الحيوية» Antibiotic Resistance، ومع التأثيرات السلبية للمضادات الحيوية على مستعمرات البكتيريا الصديقة في أجزاء الجسم المختلفة وخاصة الأمعاء، ومع التطور العلمي في كيفية التعامل مع الفيروسات، بدأ الاهتمام يتزايد بإمكانيات العلاج بعاثيات الفيروسات. وخاصة أن العاثيات لا تستهدف إلا نطاقاً ضيقاً من السلالات داخل نفس الأنواع البكتيرية. بالإضافة إلى أن العاثيات الفيروسية تتكاثر فقط إذا كانت البكتيريا المستهدفة موجودة في المنطقة المحلية. وهذا يعني أنها تهاجم فقط البكتيريا المطلوبة، وتستمر في التكاثر فقط حتى تقضي على العدوى البكتيرية.
كما تطرح بعض الأوساط العلمية أن ثمة عدة أمثلة على تأثيرات إيجابية لبعض الفيروسات في الحماية من الأمراض ومسببات الأمراض الأخرى. ومنها أن بعض أنواع فيروس الهربس يساعد خلايا الدم البيضاء البشرية على امتلاك قدرة تحديد الخلايا السرطانية والخلايا المصابة بالفيروسات المسببة للأمراض الأخرى.
كما أن إصابة مرضى الإيدز بفيروس التهاب الكبد الفيروسي من نوع جي GBV – C يُسهم في جعلهم يعيشون أطول، مقارنة بمرضى الإيدز غير المُصابين بفيروس التهاب الكبد الفيروسي من نوع جي. ولا يُعرف سبب هذا حتى اليوم.
وأحد التفسيرات المطروحة أن هذا الفيروس يبطئ من تطور الإيدز عن طريق منع مستقبلات المضيف اللازمة لدخول الفيروس إلى الخلية، ويعزز إطلاق الإنترفيرون والسيتوكينات (البروتينات التي تنتجها خلايا الدم البيضاء لتنشط الالتهاب وتزيل الخلايا المصابة أو مسببات الأمراض).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
© Copyright 2024, All Rights Reserved, by Ta4a.net