ظروف «كوفيد ـ 19» تطور الممارسات الطبية

مع مرور ما يقارب السنة تقريباً على انتشار الجائحة العالمية «كوفيد-19»، وفقدان أكثر من مليون ونصف المليون شخص حول العالم بسببها، لا يزال الأطباء في جميع أنحاء العالم يتعلمون عن هذا الفيروس ويتكيفون معه، حيث يكتشفون طرقاً جديدة وعلاجات أكثر فاعلية في الحفاظ على الناس على قيد الحياة.
– مرض جديد
يتعلم الأطباء تحسين الرعاية والعلاج لمرضى «كوفيد-19»، من أجل إنقاذ مزيد من الأرواح، ويعود الفضل في ذلك للتضحيات التي قدمها أوائل ضحايا الجائحة من المرضى. ووفقاً للدكتور مارتن لاندراي (Martin Landray)، أستاذ الطب وعلم الأوبئة في جامعة أكسفورد رئيس الفريق البحثي لدراسة (Recovery trial) التي استغرقت 100 يوم، فإن الجائحة أفرزت نتائج غيرت الممارسة السريرية تماماً على المستوى الدولي.
لقد غلب على الأطباء شعور بـ«العجز» في أول أربعة شهور من تفشي الوباء، بشأن قدرتهم على علاج المرض، من حيث حجم الأعداد الكبيرة للمصابين، وقلة المعلومات، سواء حول سبب تحويل بعض المرضى للعناية المركزة أو وفاة بعض آخر خلال أيام معدودة أو تعافي الآخرين، والتغيير المتكرر لبروتوكولات العلاج.
ولم يرَ الأطباء من قبل، مطلقًا، أي شخص مريض بـ«كوفيد-19»، ولكنهم بعد أربعة أشهر أصبحوا على دراية بالمرض، وعلى قرب شديد من المرضى في غرف الطوارئ والعناية المركزة، وتعلموا الكثير عن أفضل السبل لعلاج المرضى.
لقد كانت التوصيات الخاصة بخطط وبرتوكولات العلاج تتغير بشكل متكرر غير معهود في بداية الوباء، وكذلك ممارسات العاملين الصحيين باتت تتغير من يوم إلى آخر تقريباً، مما جعل الأمر محيراً حقاً للأطباء والممرضات بشكل خاص.
وما لبثت الأمور أن تغيرت شيئاً فشيئاً، مع مرور الأيام والشهور للجائحة، وبدأ الأطباء يحققون تقدماً في اكتشاف علامات الإنذار المبكر للحالات الخطيرة من المرض، وتعلموا كيفية التدخل المبكر الفعال، ورافق ذلك انتشار الوعي بين الناس عن معظم ما يتعلق بالفيروس المستجد، فبدأوا يشعرون بقدر أكبر من السيطرة على المرض.
– دراسات وبيانات
مع بداية ظهور الوباء في مدينة ووهان الصينية، بدأت الدراسات في جميع المراكز الطبية، وأخذت البيانات تتدفق من جميع أنحاء العالم، بعضها واعد وبعضها الآخر ضعيف محبط. الواعد منها منح الأطباء الثقة بشكل متزايد بأن العلاجات الجديدة والاستراتيجيات السريرية سوف تساعد في تقليل خطر الوفاة بسبب كورونا، وبالفعل أصبحت معدلات الوفيات السريرية تشهد تراجعاً نتيجة التحكم في العلاج بشكل أفضل، وبالاستخدام الأمثل للأكسجين وموارد العناية المركزة، والاستخدام الأفضل للديكساميثازون، والاحتياطات الكبيرة التي يتخذها الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس، مثل كبار السن والذين يعانون من حالات مزمنة كالسكري وأمراض القلب، مما ساعد في تجنب تعرضهم للفيروس، وفقاً للمدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية.
– التعامل مع الحالات
> خلال الأشهر الأولى للجائحة، حدثت تغييرات في استراتيجيات الأطباء تجاه المرضى من ذوي الحالات الخطيرة، فمريض «كوفيد-19» من النوع الشديد الذي يستلزم التنويم بالمستشفى خارج قسم العناية المركزة سوف يحظى بالعناية الأساسية من الأطباء، مثل إعطائه السوائل الوريدية لمنع الجفاف، والمحافظة على خفض درجة الحرارة، وإعطائه الأكسجين حسب الحاجة، مع مراقبة المؤشرات الحيوية. وقد أصبح الأطباء الآن أكثر يقظة للتعامل مع جلطات الدم التي تظهر لدى كثير من مرضى كورونا وتهدد حياتهم.
> أما مريض «كوفيد-19» من النوع المتوسط، فسوف يخضع لعمل الاختبارات المتاحة في المستشفيات لتأكيد الإصابة، ويتم تجنيب إعطائه علاجات غير ضرورية، مع الحرص على ألا ينتقل إلى النوع الشديد بإعطائه الستيرويدات مبكراً، وكذلك علاجات الأجسام المضادة الصناعية التي تمنع الفيروس.
> وبالنسبة لمرضى النوع الخفيف الذين يعانون من أعراض أقل حدة، فإنهم يتلقون العلاج المناسب في المنزل، مع المراقبة اليقظة للأعراض، وتجنب انتشار المرض للآخرين. وفي بعض الحالات، يُطلب من المريض عزل نفسه في أثناء المرض قدر الإمكان عن الأسرة والحيوانات الأليفة، وارتداء الكمامة، واستخدام غرفة نوم وحمام منفصلين، واتباع الإرشادات الطبية حتى الانتهاء من العزلة المنزلية.
– عقاقير واعدة
ورقة بحثية اخترناها من بين ما تم نشره (أكثر من 25600 ورقة تتعلق بالفيروس) خلال انتشار الجائحة، كانت تركز على إجراء تجارب عشوائية كبيرة ذات شواهد مصممة بدقة، وهي التي تعد في البحوث الطبية «معياراً ذهبياً»، فهي التي تثبت بالدليل ما الذي ينجح بالفعل، وليس ما الذي نأمل أن ينجح. ونُشرت الدراسة البحثية بعنوان «Recovery trial» الشهر الماضي في مجلة الأبحاث ساينتومتريكس (the research journal Scientometrics)، وقادها الدكتور مارتن لاندراي (Martin Landray)، أستاذ الطب وعلم الأوبئة في جامعة أكسفورد، مع باحثين آخرين في المملكة المتحدة، وشارك فيها الآلاف من المشاركين في خمس دراسات جارية تسعى إلى تحديد ما إذا كانت خمسة عقاقير مختلفة يمكن أن تفيد مرضى «كوفيد-19» أم لا، وهي:
> ديكساميثازون (كورتيكو ستيرويد)، رخيص متوفر على نطاق واسع، تم التوصل في يونيو (حزيران) الماضي إلى أنه يقلل من خطر الوفاة بنحو الثلث بين المرضى الأكثر خطورة، فكان أول «اختراق» رئيسي في علاج «كوفيد-19».
> عقار رمديسيفير (Remdesivir)، دواء مضاد للفيروسات من جيليد (Gilead)، يُعتقد أنه يسرع من الشفاء في المرضى المنومين بالمستشفى، ولكن لا تزال هناك مجموعة من الأسئلة حول ما إذا كان هذا الدواء يمنع بالفعل الوفاة الناجمة عن «كوفيد-19» بين المرضى الأكثر خطورة، كما يفعل الديكساميثازون والكورتيكوستيرويدات الأخرى.
> عقار هيدروكسي كلوروكين (hydroxychloroquine) المضاد للملاريا، وقد أبلغ الأطباء في فرنسا في بداية تفشي المرض في شهر مارس (آذار) عن أدلة غير مؤكدة على أنه يبدو منقذاً للأرواح. فاستخدم على أساس طارئ، وارتفعت الوصفات الطبية له بنسبة 2000 في المائة بين المرضى البالغة أعمارهم 60 عاماً، لكن الدراسات اللاحقة وجدت أنه يسرع في الواقع من الموت لدى بعض المرضى، فسحبت إدارة الغذاء والدواء الأميركية تصريح الطوارئ في يونيو (حزيران).
> عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية (lopinavir وritonavir) ألهمت الأمل، فتم وصفها على نطاق واسع علاجاً مشتركاً لمرضى «كوفيد-19» المنومين بالمستشفيات، إلا أن تأثيرها في خفض الوفيات كان ضئيلاً أو معدوماً، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
> عقار ريجينيرون (Regeneron) المضاد للفيروسات، وُجد في أوائل سبتمبر (أيلول)، ضمن دراسة «Recovery trial»، أنه علاج واعد، ولكن لن يتم الإعلان عن نتائجه حتى نهاية الدراسة التي قد تأتي في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الحالي أو يناير (كانون الثاني) المقبل 2021.
لقد استطاعت دراسة «Recovery trial» أن تؤكد فاعلية عدد من الأدوية التي يمكنها أن تنقذ الأرواح، وأسفرت عن نتائج غيرت ممارسة الأطباء في التعامل مع «كوفيد-19» تماماً على المستوى الدولي. فقد تغير نهج الأطباء في العلاج، وأصبح أكثر تحفظاً عندما يتعلق الأمر باستخدام العقاقير، بعد أن كان كثير منهم يميلون للأفراط في استخدام العقاقير لعلاج الأعراض، مع حدوث عدد من الآثار الضارة، فغالبية الأمراض -متوسطة إلى خفيفة الشدة- تتحسن من تلقاء نفسها عند غالبية الناس.
– طرق علاجية
> علاج بلازما النقاهة. بلازما النقاهة (convalescent plasma) هو دم يتم التبرع به من قبل الأشخاص الذين تعافوا من مرض «كوفيد-19»، وقد تم اعتماده من إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) للاستخدام الطارئ في علاج الأشخاص المصابين بـ«ـكوفيد-19» في المستشفى، مع استمرار الرعاية الداعمة لتخفيف الأعراض، ومنها مسكنات الألم (إيبوبروفين أو إسيتامينوفين)، شراب أو دواء للسعال، مع الراحة وتناول السوائل.
> وضعية الانبطاح للحصول على الأكسجين. وفيما يتعلق بفيروس كورونا المستجد، فإن أحد أهم الإنجازات التي حققها الأطباء هو الفهم الأفضل لكيفية تزويد مرضى الحالات الحرجة بالأكسجين دون وضعهم على جهاز التنفس الصناعي. ففي الوقت المبكر من تفشي الجائحة، دأب الأطباء على وضع المرضى المصابين في مراحل خطيرة متقدمة على أجهزة التنفس الصناعي، وهي طريقة تدخلية (invasive)، ولكنها فعالة لتوفير الأكسجين عند فشل الرئتين. وأدى ذلك إلى تسابق الدول في الحصول على أجهزة التهوية الصناعية التي لم تكن متوفرة بالعدد الكبير الذي يفي بمتطلبات الجائحة، فأنفقت مئات الملايين من الدولارات لإعادة تجهيز المصانع لبناء آلات إنقاذ الحياة.
ولكن مع مرور الوقت، واكتساب الخبرة، اتجه الأطباء نحو وسائل أقل توغلاً للأكسجين الإضافي، ووجهوا المرضى إلى مزيد من الراحة في وضعية الانبطاح على بطونهم لمساعدتهم على تجنب الحاجة إلى التهوية الميكانيكية، فحصلوا على نتائج باهرة، وتحسن كثير من المرضى الذين قدمت لهم الرعاية بطريقة أكثر تحفظاً. لماذا وضعية الانبطاح هذه؟ عندما ينام شخص على ظهره، تضغط أعضاؤه على رئتيه، وتجعل من الصعب على الشعب الهوائية أن تتوسع بالكامل، أما عندما يكون على معدته، يكون لرئتيه مساحة أكبر لملء الهواء، مما يساعد في الحصول على ما يكفي من الأكسجين لتجنب الحاجة إلى جهاز التنفس الصناعي. ووفقاً للدكتور جيمس هودسبيث (James Hudspeth)، رئيس قسم استجابة «كوفيد» للمرضى الداخليين في مركز بوسطن الطبي، كان الأطباء يلجأون إلى الكانيولات الأنفية للحصول على مستويات عالية من الأكسجين.
– الجدول الزمني للعلاج
لا تزال هناك أسئلة كثيرة تحير الجمهور تدور حول مزيج العلاج والرعاية والراحة التي يحتاج إليها مريض «كوفيد-19».
ويتفق الأطباء في جميع أنحاء العالم على أنهم يعالجون الآن مرضى «كوفيد-19» بطرق أكثر فاعلية، وبخيارات علاجية أكثر من ذي قبل، وأن هناك تحسناً كبيراً في الأشهر الأخيرة، ليس فقط في أسلوب علاج «كوفيد-19»، وإنما أيضاً على الجدول الزمني لرعاية المرضى. فالآن، يتم إدخال عدد أقل من المرضى إلى المستشفيات، ويقيمون فيها لفترة أقصر من ذي قبل، وقد بدأ معظم المرضى يظهرون الاستجابة في غضون ثلاثة إلى أربعة أيام.
ولقد أصبح متوفراً لدى المراكز العلاجية نظام علاجي واضح متفق عليه، يبدأ عادة باستخدام مضاد الفيروسات ريدميسيفير (remdesivir) وعقار ديكساميثازون (dexamethasone)، وبعض المراكز تضيف البلازما إلى ذلك، ومن ثم تقدم لهم فرصة للأجسام المضادة مثلاً.
وإذا نظرنا إلى غالبية مرضى «كوفيد-19»، نجدهم من صغار السن الذين يتمتعون بصحة جيدة، وتكون حالتهم بين الخفيفة والمتوسطة، ونادراً ما يحتاجون إلى دخول المستشفى. أما الحالات الشديدة التي تتطلب التنويم بالمستشفى، فيكون الإطار الزمني بين خمسة إلى عشرة أيام كحد أقصى. وهذا يعني أن المرضى يقضون وقتاً أقل في المستشفى من ذي قبل.
وأخيراً، فإن من الملاحظ في الشهور الأخيرة للجائحة أن معدل توارد المعلومات الجديدة قد تباطأ، وأن الأطباء لم يعودوا يغيرون ممارساتهم بالسرعة التي كانوا عليها في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) الماضيين، ومن المتوقع أن تصبح معظم الأمور مستقرة نسبياً في الأشهر القليلة المقبلة. وتستثنى من ذلك المعلومات الجديدة حول الأدوية الأكثر فائدة أو الأقل فائدة، وحول اللقاحات المرتقبة ومدى تأثيرها في الوقاية من الفيروس، ومنع مضاعفات المرض على المصابين، والقضاء على انتشار الفيروس بين الناس، لكن معظم الممارسات الشائعة الأخرى ستكون أكثر رسوخاً.
– استشاري طب المجتمع

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
© Copyright 2024, All Rights Reserved, by Ta4a.net