ريبورتاج: أرمن برج حمود بين من يخير “الموت في لبنان” ومن تدفعه الأزمة إلى التفكير في الهجرة

ريبورتاج: أرمن برج حمود بين من يخير "الموت في لبنان" ومن تدفعه الأزمة إلى التفكير في الهجرة إعلان اقرأ المزيد <![CDATA[.a{fill:none;stroke:#9a9a9a;stroke-width:2px}]]>

عين على معاناتهم اليومية التي اشتدت بعد انفجار مرفأ بيروت وجراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بلبنان، وأخرى على هموم بلادهم الأصلية التي تعيش حربا مع جارتها أذربيجان. وبين هذين الشعورين، يحاول أرمن بيروت مواجهة المحن والأيام السوداء بقلب متفائل رغم أن الكثيرين منهم لا يرون أي بصيص أمل.

التقت بهم فرانس24 في ضاحية برج حمود التي تبعد عن العاصمة اللبنانية حوالي عشرة كيلومترات. هذه البلدية التي تلقب بـ"أرمينيا الصغيرة" لأن غالبية سكانها من أصول أرمينية، يحدها نهر بيروت من الشمال ومدينة جديده شرقا، فيما تطل ديارها العتيقة والجميلة على المتوسط وتعتبر الشاهد الأكبر على تاريخهم.

جاء الأرمن إلى لبنان بعد أحداث الإبادة الجماعية التي استهدفتهم في 1915 والتي أودت بحياة عشرات الآلاف منهم، تقول أربي منغاساريون. وهي سيدة مسنة تشرف على جمعية "بادغير" الواقعة في المنطقة رقم 4 بالحي والتي تقدم مساعدات إنسانية لأفراد الجالية الذين يمرون بأوضاع صعبة.

قالت أربي "الأرمن هم الذين شيدوا برج حمود وطوروا الاقتصاد وبعثوا فيه الروح".

أربي منغاساريون تشرف على جمعية "بادغير" التي تهتم بشؤون الأرمن في حي برج حمود وتنظم نشاطات ثقافية واجتماعية للحفاظ على التماسك الإجتماعي بين أفراد الجالية الأرمنية ببيروت.
أربي منغاساريون تشرف على جمعية "بادغير" التي تهتم بشؤون الأرمن في حي برج حمود وتنظم نشاطات ثقافية واجتماعية للحفاظ على التماسك الإجتماعي بين أفراد الجالية الأرمنية ببيروت. © مارك ضو/فرانس24

تعرف أربي منغاساريون عن ظهر قلب أسرار الشوارع المتعرجة والأزقة الضيقة التي تعج بالأسلاك الكهربائية التي تربط المباني بعضها البعض بشكل عشوائي وبكل ما تخفيه المحلات الصغيرة والدكاكين من كنوز وتجارب حرفية جاء بها الأرمن إلى لبنان في القرن الماضي، كصناعة الملابس الجلدية وصياغة الماس والذهب وصناعة الأحذية وشتى أنواع الألبسة. لكن هذا "الزمن راح وولى" حسب أربي التي أكدت أن الأرمن أصبحوا "يعانون مشاكل اقتصادية واجتماعية صعبة جعلت العديد منهم يعودون إلى بلدهم الأصلي أو يفكرون في ذلك أو يهاجرون إلى بلدان أخرى بحثا عن حياة أفضل".

" نحن كأرمن تعودنا على المصائب وعلى إيجاد الحلول…"

تضرر مقر جمعية "بادغير" من انفجار مرفأ بيروت ودمرت أجزاء كثيرة منه. والمقر هو عبارة عن منزل متكون من طابقين، ذي مدخل مزخرف. وقدرت تكلفة عملية ترميمه بحوالي 9000 دولار. ولو لم تتحصل رئيسة الجمعية على هبة مالية من امرأة أرمينية تعيش في هولاندا، لما تمكنت من مزاولة نشاطات "بادغير" الثقافية والاجتماعية والحفاظ على روح التضامن بين الأرمن وعلى تماسكهم الاجتماعي.

للمزيد، ريبورتاج: انفجار مرفأ بيروت وفيروس كورونا وأزمة اقتصادية… كيف تراكمت الهموم على رؤوس اللبنانيين؟

اضطرت أربي منغاساريون إلى غلق هذه الجمعية لمدة ثلاثة أسابيع لأنها أصيبت "بانهيار نفسي وعصبي" بعد الانفجار الذي هز مرفأ لبنان. "في الأسبوع الأول الذي تلا الكارثة، كنت أشعر بحزن عميق. وجهي كان أصفر اللون. كنت أعيش في عزلة كأنني دخلت في قوقعة. كنت أرفض حتى الإجابة على أسئلة والدي اللذين يبلغان من العمر قرنا. لكن بعد مرور عشرة أيام، قررت أن أترك الحزن جانبا وأعتني بهما وأبتسم لهما خشية أن يرحلا نهائيا لأنهما عانيا هما أيضا من اضطرابات بعد الانفجار".

ورغم مرور شهرين على الانفجار، لم تتمكن الجمعية من مزاولة نشاطاتها بنفس الوتيرة التي كانت بها في السابق ما أثر سلبا على مداخيلها المالية. كما تراجع إشعاعها الثقافي الذي كانت تتميز به في الماضي. وتضيف أربي منغا ساريون "الوضع الاقتصادي لأرمن برج حمود صعب للغاية بسبب انتشار وباء كوفيد -19 وتراجع الاقتصاد"، و"ما زاد الطين بلة، هو الوضع السياسي الخطير في بلدنا الأصلي الذي أصبح يقلقنا كثيرا".

لكن رغم الصعوبات والمآسي، لا تزال أربي منغاساريون "تتفاءل بالمستقبل" لأنه "ببساطة لا يوجد حل أخر أمامنا، إضافة إلى أننا كأرمن تعودنا على المصائب وعلى إيجاد الحلول" حسب تعبيرها. ومن بين هذه الحلول، "تنظيم رحلات ثقافية لأرمن يعيشون في بلدان أوروبية لاكتشاف كنوز برج حمود والتعرف على سكانه وبناياته العتيقة وعلى المهن الحرفية التي أصبحت جزءا مهما من تاريخه وفن الطبخ الذي تفوح رائحته من داخل المنازل".

" في السابق، كان كل لبنان يأتي إلى برج حمود"

غادرنا مقر جمعية "بادغير" رفقة أربي منغاساريون التي كانت مصرة أن تطلعنا على آثار الأزمة الاقتصادية وانفجار مرفأ بيروت على حياة سكان برج حمود. شاهدنا منازل عتيقة تشققت جدرانها بسبب الانفجار، شأنها شأن بعض المحلات التجارية التي لم تفتح بعد بسبب عدم امتلاك أصحابها الأموال الكافية لترميمها أو إعادة بنائها من جديد.

لم يواجه هامبي شاربيجيان (65 عاما) عائق المال لإعادة ترميم محله المتخصص في بيع مواد جلدية والذي فتحه في عام 1973. لكن المشكل الأساسي بالنسبة له يكمن في تراجع النشاط التجاري بسبب قلة الزبائن في لبنان وببرج حمود منذ سنتين، ما جعله يشتغل دون أن يجني فوائد مالية.

وعندما سألناه هل هناك احتمال أن تغلق المحل؟ أجاب: "طبعا لا لأنه ملكي ولا أستأجره. لو كنت مستأجرا لما غلقته في هذه الحالة" وأردف "في السابق عندما كانت الحركة التجارية نشطة في برج حمود، كنت أوظف من 5 إلى 6 أشخاص في الورشة، أما اليوم فأشتغل مع زوجتي فقط. نحن نتسلى ونقضي فقط الوقت هنا". وأضاف "الأزمة الاقتصادية في برج حمود ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى سنتين على الأقل. لكن الوضع تأزم أكثر بعد الانفجار. حاول أن تتجول في الشوارع، سترى كل المحلات "فاضية" (مقفلة). في السابق، كل لبنان كان يأتي إلينا. مسلم، مسيحي، درزي، شيعي. كلهم يأتون إلى برج حمود لقضاء حاجياتهم. اليوم صفر. لم يعد يأتي أحد".

" سأبقى في لبنان إلى الأبد. خلقت هنا، وسأموت هنا"

ويخشى هامبي شاربيجيان أن "يكون المستقبل صعبا وبالأخص للتجار الذين يستأجرون محلاتهم التجارية". لكنه في نفس الوقت يرفض فكرة العودة إلى أرمينيا لأن قصة حياته كما يقول بدأت في برج حمود.

كنيسة القديس وارطان في قلب برج حمود. وهي كنيسة يقصدها الأرمن من كل مكان
كنيسة القديس وارطان في قلب برج حمود. وهي كنيسة يقصدها الأرمن من كل مكان © مهدي شبيلي / فرانس24

وقال لفرانس24 "زوجتي وابنتي تملكان جوازات سفر أرمينية إضافة إلى الجواز اللبناني. لكن أنا لم أطلبه من السفارة. سأبقى في لبنان إلى الأبد. خلقت هنا، وسأموت هنا". بالمقابل ابنته تفكر بجدية في الذهاب للعيش في أرمينيا مع زوجها يشرح هامبي شاربيجيان "لأنه لم يجد عملا في لبنان ولا يزال يسكن في منزلي". ورغم شعوره بالتفاؤل إزاء المستقبل، إلا أنه متأكد بأن التغيير الجذري في لبنان لن يأتي بسلاسة بل بوقوع "ضرب وكسر" حسب تعبيره.

شوارع برج حمود التي كانت في السابق تعج بالزبائن والسيارات وأصوات البائعين والنقالين أصبحت اليوم صامتة.

إضافة إلى الأزمة الاقتصادية وارتفاع قيمة عملة الدولار (دولار واحد يعادل 8500 ليرة لبنانية في السوق السوداء) وانتشار وباء كوفيد -19، كل هذه العوامل غيرت وجه هذه المدينة التي كانت في السابق مركزا تجاريا يقصده الناس من كل مكان. اليوم برج حمود تحول إلى حي عادي كباقي أحياء بيروت الأخرى، باستثناء ربما “شارع أرمينيا” المركزي الذي يعج بمحلات الذهب والماس والمكتظ بالسيارات والمارة.

" هنا في لبنان، الحكومة لا ترانا"

ليس بعيدا عن “شارع أرمينيا”، التقينا برافي بامباكيوم (39 عاما) الذي يملك ورشة صغيرة لصناعة أحذية جلدية. مساحة الورشة التي ورثها من والده قبل عشر سنوات لا تتسع لأكثر من أربعة موظفين.

لن ينسى برافي بامباكيوم يوم 4 آب/أغسطس الذي وقع فيه الانفجار. فصداه وصل إلى برج حمود وزرع الذعر في نفوس سكانه. ويقول "كنا نعمل كلنا في الورشة وعندما سمعنا صوت الانفجار خرجنا

برافي بامباكيوم (39 عاما) يملك مصنع لصناعة الأحذية الجلدية. هو أيضا يفكر في الذهاب إلى الخارج لكن ليس إلى أرمينيا. ربما إلى بلد أوروبي حيث يهتم بالصناعات الحرفية ويقدمون الدعم الضروري لتنمية مثل هذه المهن القديمة.
برافي بامباكيوم (39 عاما) يملك مصنع لصناعة الأحذية الجلدية. هو أيضا يفكر في الذهاب إلى الخارج لكن ليس إلى أرمينيا. ربما إلى بلد أوروبي حيث يهتم بالصناعات الحرفية ويقدمون الدعم الضروري لتنمية مثل هذه المهن القديمة. © مارك ضو/فرانس24

ويضيف "كنا نعمل كلنا في الورشة وعندما سمعنا صوت الانفجار خرجنا إلى الشارع لمعرفة ماذا وقع. لحظات قليلة ورأينا دخانا ملونا بالأسود والأحمر يتصاعد في السماء. وبعدها سمعنا انفجارا ثانيا، فانتابنا الخوف وانبطحنا على الأرض من شدة الذعر. سمعنا زجاج أبواب الشرفات وهو يتكسر وجدران بعض المنازل القديمة تتشقق. كان شعورا مخيفا جدا. لحسن الحظ، لم نصب بجروح خطيرة".

وفي سؤال حول عواقب الانفجار على عمله ووظيفته، أجاب قائلا" اللبنانيون كلهم يشعرون بخيبة أمل كبيرة. كلنا نعاني من غياب الزبائن ومن انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار، إضافة إلى انتشار وباء كوفيد-19".

وتابع " اعتقد أن الأمور انتهت في لبنان هذه المرة. سأواصل العمل إلى غاية نهاية السنة ثم سأرى ما الذي سأفعله. ربما سأغادر البلاد. أنا أفكر في ذلك… أريد أن أذهب إلى بلاد تحميني وتحمي عائلتي ومهنتي. بلدان كثيرة تحترم الأعمال الحرفية وتقدم يد الدعم للحرفيين. هنا في لبنان، لا يوجد ذلك: الحكومة لا ترانا".

" الكل يريد أن يذهب. الكل يريد الرحيل"

رافي لا يعتقد بأن الوضع في لبنان سيتغير، بل بالعكس سيتأزم أكثر. وخاطبنا قائلا "اسمع يا صديقي عندما بدأت العمل قبل عشر سنوات، كان الوضع الاقتصادي تقريبا شبيها بالوضع الذي نعيش فيه حاليا. وكان الناس يقولون لننتظر ونصبر قليلا لعل الوضع سيتحسن وربما هناك أمل. حتى والدي كان يقول لي بأن الأمل موجود في هذا البلد. لكن بعد مرور عشر سنوات، الوضع لم يتحسن والأمل لم يظهر. بالعكس، الوضع ازداد سوءا". وتساءل "هل سأنتظر أيضا عشر سنوات أخرى؟ لا. لا أمل لي في هذه البلاد".

عامل أرميني في مجال الخياطة أمام آلته
عامل أرميني في مجال الخياطة أمام آلته © مهدي شبيلي / فرانس24

رافي منشغل أكثر بمستقبل أبنائه الاثنين (لوكاس 7 سنوات ورافائيل عام ونصف). فهو يريد أن ينموا في "بلاد آمنة تقدم لهما الدعم اللازم لكي يتعلما ويعيشا حياة هنيئة مثل باقي أطفال العالم".

ورغم أنه ولد وترعرع في برج حمود وله علاقة وطيدة مع هذا الحي الذي تعلم فيه كل شيء كما يقول، لكن الحل بالنسبة له يكمن في الرحيل. "برج حمود يمثل حياتي. ولدت هنا وكبرت هنا. هو بمثابة منزلي. لو كان لدي الاختيار، لبقيت فيه إلى آخر لحظة من حياتي. لكن ما الذي أستطيع أن أفعله وإلى أي حد يجب أن أعاني وتعاني عائلتي في هذا البلد؟ الكل يريد أن يذهب. الكل يريد الرحيل. هو خيار صعب لكن لا مفر منه".

للمزيد، ريبورتاج-عائلات ضحايا انفجار مرفأ بيروت: "قتلتم أبناءنا مرتين، الأولى بفسادكم والثانية بإهمالكم"

"كل أنواع الدمار موجودة في لبنان"

باتشي هاغوب هاجاكيان يريد هو أيضا مغادرة لبنان والذهاب إلى أرمينيا لأنه "لم يبق أي شيء في برج حمود" حسب قوله. يملك هاجاكيان معملا لخياطة الملابس النسائية منذ 1989، لكن منذ أكثر من سنتين تدنت أرباحه إلى درجة أنه لا يستطيع أن يستمر في العمل. وقال لفرانس24 "الوضع الحالي أصعب من الوضع الذي كنا فيه زمن الحرب. كنا نشتغل مثلا أسبوعين في وقت الحرب ونعيش شهرين أو أكثر باالأموال التي نجنيها. أما اليوم فإذا توقفنا عن العمل أسبوعا واحدا فقط، سنتضرر خلال شهرين أو أكثر". وأضاف "المعيشة أصبحت غالية ولوازم الخياطة غير متوفرة. يجب شراؤها بالدولار من تايوان أو ماليزيا أو الصين. حتى الخيط غير متوفر في لبنان".

وعندما طلبنا منه كيف يرى المستقبل، قال "الله وحده يعرف. نحن نناضل من أجل البقاء على قيد الحياة. الشغل ما فيه. والمصاري ما فيه. كل شركات القماش أغلقت. لا أعرف إلى أين نحن ذاهبون. أعرف فقط أننا نسير من الوضع السيء إلى الأسوأ".

ويفكر باتشي هاغوب هاجاكيان بجدية في الهجرة إلى أرمينيا. وكان قد خطط لذلك في نهاية السنة الجارية. لكن وباء كوفيد-19 قطع عليه الطريق وأرغمه على تأجيل مشروع الرحيل إلى وقت لاحق. يقول هذا الرجل الذي ولد في برج حمود في 1965 "أعشق لبنان أكثر من أرمينيا لأنني ولدت فيه وكبرت فيه. صعب أن يترك المرء جذوره ويسافر. لكن لا أستطيع أن أقاوم أكثر. لماذا يجب أن أشتغل طيلة حياتي أو أن أجبر على التسول في الشارع".

وأنهى "دمرونا معنويا واقتصاديا. كل أنواع الدمار في لبنان. لم يسبق لهذه البلاد أن وصلت إلى هذا الوضع. أنا متشائم. سنواجه أوقاتا أصعب من التي نعيشها حاليا”

طاهر هاني

الرسالة الإخباريةأبرز الأحداث الدولية صباح كل يوم

اشترك

ابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق فرانس 24

Download_on_the_App_Store_Badge_AR_RGB_blk_102417 <![CDATA[.cls-1{fill:#a7a6a6;}.cls-2,.cls-6{fill:#fff;}.cls-3{fill:#5bc9f4;}.cls-4{fill:url(#linear-gradient);}.Graphic-Style-2{fill:url(#linear-gradient-2);}.cls-5{fill:url(#linear-gradient-3);}.cls-6{stroke:#fff;stroke-miterlimit:10;stroke-width:0.2px;}]]>google-play-badge_AR

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
© Copyright 2024, All Rights Reserved, by Ta4a.net